التعامل تربويا مع ذكرى عاشوراء

التعامل تربويا مع ذكرى عاشوراء

کیف نحوّل ذكرى عاشوراء الى برنامج للتربية و بناء هوية الأطفال والناشئة؟

د.محمد محسن عليق ـ أستاذ جامعي؛ باحث في التربية الإسلامية وعلم الجمال •

24/09/2018)

الحب ينبع من المعرفة، وذكرى عاشوراء لا تأتي فجأة! إذا أردنا التعامل تربويا والاستفادة المثلى من ذكرى عاشوراء، ينبغي علينا أن نتعرف على أبطال كربلاء قبل حادثة كربلاء، وأن نقصّ على مسامع أبنائنا وطلابنا سيرة الحسين عليه السلام الطفل والشاب، ونبيّن دوره كإبن وحفيد وأخ وزوج وعالم ومجاهد و.... ليتعرفوا على القيم التي يجسّدها والمثل الكبرى التي يحملها، وهي التي صنعت منه سيداً لشباب أهل الجنة وسيداً للشهداء على مر الزمان.

هذه الشخصية الجميلة سيحبها كل من يتعرف عليها؛ صغيراً كان أو كبيراً، مسلماً كان أو مسيحياً، أو حتى لم ينتسب الى أي دين! إن نشر وتبيين قيم ولي الله الكامل الإمام الحسين - والتي تجلى بعضها فقط في كربلاء - يساهم بشكل قوي في فهم وإدراك مشروع الله تعالى لإصلاح البشر وإيصالهم للكمال المنشود، ويقوّي الحب والتعلق العاطفي بسيد الشهداء، فيأتي الإحياء السنوي في محرم قوياً ناضجاً مفعماً بالحب والشوق، ومرتكزاً على التعقل لمنطق عاشوراء، ومدركاً لمسار الأحداث وأبعاد الواقعة تاريخياً وسياسياً واجتماعيا، وصولاً للبعد التربوي والأخلاقي والإلهي.

إذا اعتبرنا إحياء ذكرى عاشوراء برنامجاً تربوياً للأطفال والناشئة من الأبناء والطلاب الأحباء، وخططنا له وفق "التربية الإسلامية الجديدة"(1) فعلينا أن نضع الأهداف الواضحة لهذا البرنامج العاشورائي ضمن قالب الأهداف الخمسة لهذه التربية الجديدة (تعقّل - إيمان - علم -عمل - أخلاق) حيث المحور الأساس لكل نشاط تربوي تعليمي هو التعقل والتفكر بكل حرية وحق في الاختيار، ثم يأتي الإيمان المطلوب كمعرفة مترافقة مع الحب والرضى والتسليم بعيداً عن التلقين والفرض والتعويد السطحي، ومن بعدها يكون للعلم وتحصيل المعلومات الأثر النافع، ويأتي العمل حراً يقوي الإرادة والهداية والتكامل الاختياري، وتتجلى الأخلاق كثمرة طيبة لهذه العملية التربوية المستمرة.

تتحقق هذه الأهداف التربوية لتشكّل هوية الإنسان المتربي - العبد للرّب تعالى - وتتجلى في علاقات المتربي الأربع:

- علاقته مع نفسه (جسداً وروحاً)

- علاقته مع الله تعالى (أسماء الله وصفاته وافعاله وآياته واوليائه وكتابه..)

- علاقته مع البشر (الأهل والأصدقاء و أبناء شعبه ودينه والبشرية و.. وصولاً لعلاقته مع الأعداء)

- علاقته مع الكون وعالم الخلقة (الدنيا والآخرة والموت والحياة والطبيعة والبيئة والكائنات الأخرى كالملائكة وإبليس والشياطين ...)

وفق المنظومة التربوية العلمية، ننظر الى عاشوراء، هذه المعجزة التي لا نظير لها أبداً، حيث يجتمع بشرٌ بكل وعي وإرادة وشوق للإحياء وللبكاء على مصاب شهداء قضوا نحبهم منذ أكثر من 1300 سنة! وينظم هؤلاء الحسينيون هذه العملية في مراسم خاصة وأساليب مميزة فنياً واجتماعيا ً ودينياً وعاطفياً و... يجب علينا هنا أن نحدد الأهداف التربوية للإحياء، كي نتمكن من متابعتها وتقويمها وإبداع الأساليب الأفضل والأجمل للوصول إليها وتصحيح مساراتها وإزالة شوائبها إن وجدت، فالتربية عملية مقصودة ومخطط لها، ولا يمكن تركها للعفوية والاعتباط والحالات الانفعالية والأعراف السائدة وخاصة في هذا الزمان الحساس. فنفكّر ونبحث ونخطط: 

التعقّل: ما هي القيم والمفاهيم والأصول التي ينبغي للأبناء (بحسب مراحلهم العمرية) أن يتفكروا فيها ويتعقّلوها في ذكرى عاشوراء وتجربتها التي تمثل مجتمعاً مصغراً عن الحياة الإيمانية والقيمية الراقية؟ ما هي فلسفة عاشوراء؟ ولماذا خرج الإمام الحسين عليه السلام بأصحابه واهله وأطفاله مع علمه بمصير المعركة؟ هل صحيح أن الشهادة هي هدف الإمام؟ هل سار الإمام الى كربلاء بسبب منام شاهده أو أن حركته لها منطق واقعي واستدلال عقلي؟ لماذا نبكي على الحسين وأصحابه وهم شهداء سعداء وقد شاء الله أن يراهم هكذا؟ وما علاقة هذا البكاء بواقعنا ومستقبلنا وتكليفنا والتمهيد للظهور؟ هل معركة كربلاء حدثت بين السنة والشيعة؟

ولماذا خذل المسلمون الذين بايعوا الحسين إمامهم؟ إلخ. وهكذا تنفتح أمامنا مجموعة من الأهداف المتنوعة والكبرى التي تحتاج الى تعقّل وتفكّر وبحث ومطالعة وسؤال وتحليل واستدلال، وتحيلنا الى مصادر المعرفة الكبرى (القرآن الكريم وكلام المعصومين والتجارب العقلية وخبرات البشر والعلماء الربانيين) وتدفع المتربين الى سؤال المعرفة الأعظم "لماذا؟"

الإيمان: بناءً على أهداف التعقل، ينبغي تحديد أهداف الإيمان؛ بماذا ينبغي أن يؤمن المتربون والأبناء فيما يتعلق بعاشوراء؟ هل ينبغي تكرار عاشوراء في كل زمان؟ أم أن الإمام عليه السلام قام بحركته وشهادته لكي نمنع تكرار هذه المأساة والظلم والخيانة على مر الزمان؟ كيف نؤمن أن حركة الأئمة متصلة ومتواصلة وأن الإمام المهدي (عجل الله فرجه) سيخرج ليحقق القيم والمثل ذاتها التي قام سيد الشهداء في سبيلها؟ كيف يرتبط الإيمان بالتسليم للإرادة الإلهية وكيف تعمل هذه السنن والقواعد؟ الإيمان بانتصار الحق؛ بتحقق الوعد الإلهي؛ بدور كل فرد منا - حتى الأطفال - في تحقق العدالة والظهور ونجاة البشرية؛ الايمان بحضور المعصوم وإمام الزمان؛ الإيمان بأن كل ما لدينا هو من بركات عاشوراء الحسين (عليه السلام)؛ كيف؟

هل نؤمن بأن الولي الفقيه هو نائب إمام الزمان حقاً؟ ومجموعة متعددة من الأهداف التي ينبغي أن نحدّدها ونعمل على تحقيقها عند المتربي لتظهر بوضوح في علاقاته الأربع.

العلم: ما هي المعلومات التي ينبغي معرفتها عن عاشوراء وعن شخصياتها وأبطالها؟ ماذا حدث بالضبط وكيف توالت الأحداث منذ أن كان الحسين طفلاً والرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يلاعبه وحتى يوم شهادته؟ هل تكفي المعلومات التي تطرح في مجالس العزاء عادة لمعرفة ماذا حدث؟ وهل تمنحنا المعرفةَ اللازمة والبصيرةَ لفهم حركة الإمام المعصوم وعلاقته بالناس والسياسة وتربية البشرية؟

ما الذي طرحه الشهيد مرتضى مطهري في كتابه "الملحمة الحسينية " من معلومات وتساؤلات حتى ثار بعض المتدينين عليه ووصفوه بعدوّ المجالس الحسينية؟ لماذا يقول سماحة القائد الإمام الخامنئي (حفظه الله) - في كتابه "إنسان بعمر 250 سنة" بأنه أول من ابتكر هذا المنهج التحليلي الجديد في النظر لحياة المعصومين وحركتهم؟ كيف نعلّم الطلاب أفكار هذا الكتاب وخاصة في الفصل الخاص بالإمام الحسين وعاشوراء ودور النخب والعلماء والقادة في كل ما جرى؟ وغيرها الكثير من المعلومات والمعارف الخاصة بشخصيات كربلاء وصفاتها وعلمها وتاريخها وأخلاقها، وصولا الى التفاعل معها كأسوة وقدوة.

الطفل مثلاً عندما يذهب الى مكان مع أهله، فإنه يبحث عن الأطفال في ذلك الجمع،من هم أطفال كربلاء وكيف تصرفوا وماذا فعلوا في تلك الواقعة المحيرة التي لا شبيه لها؟ تصوروا ماذا سيحدث مثلاً لو أن الخطيب الحسيني أو الإعلامي أو المعلّم أو المنشد أو... قد التفتوا الى وجود الأطفال والناشئة بين جمهور المشاهدين المشاركين في الإحياء وقدّموا لهؤلاء الأطفال والفتية والفتيات المعلومات والقصص التي يحتاجونها في بناء شخصيتهم ببيان جميل وأسلوب جذاب!

العمل: وهنا ينبغي استحضار الأفعال والسلوكيات والأعمال التي نتوقع من المتربين القيام بها بعد المشاركة في دورة عاشوراء التربوية: هل نطلب من الطفل أن يبكي؟ أم نبكي أمامه بكل عفوية وطبيعية ويتعرف بذلك على أنواع بكاء لم يألفها سابقاً؟

هل نفرض عليه مجموعة أعمال كالمشاركة في المجالس أو نتركه يتأثر بالكبار فقط؟ كيف نشجّعه عملياً على إظهار الأدب والاحترام للمراسم وصولاً الى مشاركته فيها (لبس السواد واللطم والمسيرات وقراءة القصص والالعاب التربوية العاشورائية والمحافظة على النظافة كقيمة إنسانية تكاد تنسى في بعض المجالس والمسيرات).

وبالطبع فإن هذه الأهداف مجرد نماذج وأمثلة بسيطة لما يمكن للجهات التربوية والتعليمية والفنية والإعلامية والاجتماعية وحتى الأسرية أن تفكر فيه وتخطّط له مسبقا، وتنفّذه بانسيابية وتدريج وإبداع ومثابرة وحب للأطفال والناشئة.

الأخلاق: وهنا الكلام عن تحديد الأخلاقيات والسلوكيات والخصال التي ينبغي أن يحققها المتربي في نفسه لتصبح ملكات نفسانية راسخة؛ هل تنحصر قيم كربلاء بالفداء والتضحية والشجاعة؟ هل تكمن أهمية أبي الفضل العباس في شجاعته وجمال وجهه وقامته وعدم تخلّيه عن أخيه الحسين عليه السلام؟

ما هي الأخلاق التي تستلهم من عاشوراء في علاقات الأبوة والأمومة والأخوة والصداقة... وصولاً لعلاقة الولاية لله والإنسان الكامل؟ لماذا يصف الإمام الخامنئي عاشوراء بأنها نموذج كامل للحياة الطيبة؟ وغيرها من الأخلاق المتوزعة على ساحات التربية العلمية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية والجمالية والاقتصادية وغيرها. وفي ختام الكلام - وهو بداية ومقدمة لازمة للعمل التربوي العاشورائي - لا بد من الالفات والتذكير دوماً، بأننا في الزمن الخميني الجميل، نمتلك الفرصة الذهبية التي لم يمرّ لها مثيل منذ أكثر من ألف سنة، لتربية أنفسنا وتكاملها ومساعدة الأبناء والأطفال والطلاب والشباب على تربية أنفسهم وبناء هوياتهم بكل وعي وحرية واندفاع وطاقة وأمل، و "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها ولا تعرضوا عنها"، وهل هناك أجمل من نفحات الحسين وزينب وخير الأصحاب والأنصار؟!

المصدر:موقع أولادنا نحو الكمال

________________________________________

1. فلسفة التربية الإسلامية الجديدة: رؤية تربوية اجتهادية وعلمية تم إعدادها وصياغتها في الجمهورية الإسلامية في إيران، بجهود كبيرة لمئات العلماء والمربين والمفكرين وتحت إشراف سماحة الإمام الخامنئي وقد نتج عنها تغيير شامل في المناهج التربوية والتعليمية وإنتاج "منهج الفطرة التوحيدية" و "وثيقة التحول البنيوي في التربية والتعليم" وقد شكّلت الرؤية الحاكمة لكل الأبعاد التربوية والتعليمية والقيمية لتكامل المجتمع والإنسان في الجمهورية الإسلامية.

يا فاطمة، أما ترضيني أن تكوني سيدة نساء المؤمنين،أو سيدة نساء هذه الأمّة’(الرسول الأكرم)
يقول تعالى: ﴿... وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾
الإمام الباقر عليه السَّلام: ’ لكل شيء ربيع، و ربيع القرآن شهر رمضان ’.
عن النبي صلى الله عليه وآله: ’التوبة حسنة لكنها في الشباب أحسن’

من نحن

موقع ديني ثقافي وفكري يعنى بقضايا المرأة والاسرة والمجتمع

تواصل معنا

يسرّنا تواصلكم معنا عبر الايميل alzaakiyaa@gmail.com