ندى بنجك
في العادة أن الإنسان هو من يُحيي الأيام، إلا هو! يوم يُحيي الإنسان بحقّ، بكل ما أوتي من قداسة الدم، واستثنائية الشهادة. في حضرة يوم الشهيد، تحية وانحناءة لكل الشهداء وهم كل الأيام منهم ولهم، ونفرد إطلالة خاصة حول الاستشهاديين العظام، الذين كشفوا الطريق بأشلائهم، ثم توهّجوا روحاً وريحاناً.
1 - فاتح عصر الاستشهاد في تاريخ المقاومة الإسلامية، الشهيد أحمد قصير، 11 تشرين الثاني 1982 - المكان: البصّ - جلّ البحر - مدينة صور الجنوبيّة، حيث مقرّ الحاكم العسكري، وهو أكبر وأهمّ المراكز الاستخباراتيّة الإسرائيليّة التي تمّ إنشاؤها خلال فترة الاحتلال. - النتيجة: أكثر من مئتي قتيل وجريح.. مجلس الوزراء الإسرائيلي وصف العملية بـ "الكارثة".
"أمير الاستشهاديين" أحمد... ما دلّنا أحد عليك لكنّ الإنسان كي يظلّ إنساناً بحاجة إلى كرامة والحياة كي تُحيا لا بدّ من ضوءٍ ودم وتلك حكاية لا تشبه إلّا راحتيك ما دلّنا أحد عليك. قبل أربعة أيام من تنفيذه للعملية الاستشهادية، كان أحمد في الضاحية الجنوبية، يبيت مع قائده ودليله في المهمة التاريخية، الشهيد الكبير الحاج عماد مغنيّة. كانا يسهران طوال الليل على إنجاز سيغيّر واقع المنطقة. إنْ هي إلّا ساعات، ويأتي أحمد بسيّارته الملغّمة بكميّات كبيرة من المواد المتفجّرة، اخترق حاجزاً أقامه الإسرائيليون أمام مبنى المقرّ، وكلمح البصر هوى المقرّ على من فيه.
ويغيب أحمد غيبتين، الأولى، يوم شقّ الأرض وعبر فاتحاً استشهادياً ولم يُعلن عن اسمه، والغيبة الثانية، يوم أُعلن عن اسمه بعد سنتين وبضعة أشهر، حيث تأكّد الأحبّة جميعهم، أنه فارق نخلة المسجد العتيق الذي يحب، إلى الأبد.
2 - شهيد مدرسة الشجرة11/4/1983 - المكان: صور - البرج الشمالي. - منفّذ العمليّة: مجاهدٌ حسينيٌّ (لم يُعلن اسمه).
- النتيجة: عشرات القتلى والجرحى في صفوف الاحتلال. والصحافة الإسرائيلية تصف العمليّة بأنّها "كارثة صور الثانية".
الاستشهادي المخفيّ كلّ الذين عبروا على درب الغار والنار لهم أسماء يُعرفون بها، وصوَر تتزيّن بها المنازل والمفارق، إلّا أنت.. من أنت؟! أيها السرُّ الغافي، كجوهرة في أعماق الأرض... من أين أتيت؟ لم يرك أحد... ولم نعرف اسمك ولا تلاويح وجهك.. السلام عليك كنتَ من كُنت... غابت كلُّ حكاياك إلّا واحدة.. ذات صباح جئت إلى هنا استشهادياً... لم نعرف عنك، سوى أنك حسينيّ.
3 - الشهيد علي صفي الدين 13/4/1984 - المكان: نزلة دير قانون النهر - منطقة صور. - النتيجة: عشرات القتلى والجرحى في صفوف الاحتلال - العمليّة أسقطت ما سُمّي في تلك المرحلة بالقبضة الحديديّة، وجعلت العدوّ الصهيوني يفكّر جدياً في الخروج من ورطة البقاء في جنوب لبنان.
"طائر الحلوسية" عليّ.. اسم يشبه فوح التراب المبتلّ، بعد أول زخّة مطر. ويشبه جناح طير، قام ينفض عنه حبّات الندى مع أوان الصباح... كان عمره ستة عشر عاماً، بالكاد يسمع عن اعتداءٍ صهيوني في بلدته الحلوسية أو غيرها، فيسرع إلى الشيخ راغب حرب، ويسأله مستفسراً عن العمل الاستشهاديّ.. عن تأثيره في العدو.. ويردّد أمامه الشيخ: "دم الشهيد إذا سقط فبيد الله يسقط..".
وما دام الله هو المسدّد وهو الدّليل، فلا داعي لإهدار الوقت. اشترى سيّارة وقادها من بيروت إلى الحلوسيّة، من دون أن يتعلّم القيادة. هذا العليّ يعرف طريقه، وواثق من قبضة يده، وخطاه الثابتة. جاء بسيارته "الرينو الخضراء". يقول أهالي القرية إنهم رأوه في المكان، في أوّل الصباح، كانت آيات القرآن تنبعث من مسجّل سيارته، كان ينتظر مجيء القافلة، مرّت من أمامه سيارات مدنيّة عدّة، وبين وقت وآخر كان يترجّل من السيّارة ويرفع غطاء المحرك لإيهام المارّة بأنّ السيّارة معطلة.
ومع وصول القافلة الصهيونية التي شاهدها عن بُعد، قفز مسرعاً إلى السيارة وأدار المحرّك، مرّت السيارة الأولى التابعة للمخابرات، وتبعتها آليات أخرى، فاندفع، مفجراً نفسه بها.
4 -الشهيد عامر كلاكش "أبو زينب" 10/3/1985 - المكان: المطِلّة قُبالة سهل الخيام - في منطقة مرجعيون. - النتيجة: اعترف العدو بمقتل اثني عشر جندياً وجرح أربعة عشر آخرين.. وقد وصف العمليّة بأنها الأهمّ والأضخم بعد عمليّة أحمد قصير.
"أبو زينب" منذ السادسة كان في السادسة من عمره، يربط شعره الأشقر الذي قد نذرته له جدته ذات شدّة، ولم تحلقه له إلّا في حرم السيّدة زينب عليها السلام.. من يومها، صاروا ينادونه "أبو زينب". وما أدراهم أنّ الاسم سوف يصير غاراً وناراً وبطولة! ويصير العمر رهن إشارة الوقت، في تنفيذه عمل جهاديّ لم يجد غيره خياراً يرضي طموحاته، ونداءه في كلّ صلاة. واقترب الموعد.. قبل العمليّة ببضعة أيام، كان في بلدة جبشيت، وطلبوا منه أن يتلو وصيّته فيصوّروه، لكنّه لم يقبل، إلّا أنّه وصّاهم بأمر واحد، أن لا يعلنوا اسمه الحقيقي بعد تنفيذ العملية، ويظل اسمه "أبو زينب".
غاب فتى "دبّين"، وذاب دمه في السهل. خمسة عشر عاماً ونحن نغرف العزّ من أرض ابتلّت بدمه، حتّى فاض النور من قداسة السرّ، فأخرجت أثقالها، وصرخت: هذا النقيّ الاستشهادي، هو عامر كلاكش "أبو زينب".
5 - الشهيد هيثم دبوق 19/8/1988 - المكان: طريق الخردلي- تل النحاس - منطقة مرجعيون. - النتيجة: إصابة أكثر من ثلاثين جندياً صهيونياً بين قتيل وجريح. العملية أحدثت هزّة في أوساط الكيان الصهيوني. "العرفاني" لهيثم.. ينبغي أن نُشعل القناديل، كلّما اقتربنا من باب عمره... نفرش الأرض بأدعية وصلاة.
قالوا: كان عشق الله همّه وسعيه، وكان تنفيذ عمل استشهادي دوماً مطلبه. متعدّد الإشراقات هذا الجنوبي، فكان لا بدّأن يعبُر ويتفجّر... قبل يومين من تنفيذ العملية، قام مع إخوانه يفتح الطريق الترابيّ الضيّق، الذي سوف يمرّ عليه بسيارته، ويعشّبه من الأحجار الصخرية. فماذا نقول لكفّيه إذاً، وهما تنعّمان الأرض..
كي يمرّ بالمواد المتفجرة على مهل حتّى يصل؟ ويحين الوداع، لمجموعة من الرفاق قد تبادلوا معاً مهمّات الجهاد، والبكاء على الحسين، وصناعة الطعام في المحور. قبّل جباههم واحداً واحداً، وأوّلهم سماحة السيد عباس الموسوي قدس سره، قال عبارات ثلاثة: "أدعو الله أن يوفّقكم، أنتم منصورون، وهذا الخط هو خطّ مقدس لأنّه خطّ أهل البيت عليهم السلام".. ثم هاجر إلى الرحلة الحُلم..
6 - الشهيد عبدالله عطوي "الحر العاملي" 19/10/1988 - المكان: كفركلا. - النتيجة:عشرات القتلى والجرحى - والعدو الصهيوني يصاب مجدداً بحالة هيستيريا. "الحر العاملي" يمرّ العمر ونظلّ نسقي العمر إلى أن يمرّ.. مِن وِرد هذا الدم... أَوَلستَ حرّاً عاملياً؟! سبحان الذي سوّاك، كم يليق بك، وتستحقّه.
أَوَلستَ سيّداً هاشميّاً؟ نقول عذراً، ولا كلام.. فتلك حكاية أخرى في مقامات النور.. إلى العمق رمى بصره ودم العمر.. هي فلسطين، تطلّ قبالة عينيه، وهو يقف عند بوابة فاطمة.. هنا.. لا بدَّ من دم يُسقط السياج، لم يتأخّر عن الصباح أبداً.. ها هو مليك الأرض، ووريث السماء، في هيئة انفجار... مات الصهاينة عند بوّابة فاطمة كلّ أشكال الموت.. تفجّر بهم عبدالله عطوي، وظلَّ دمه يدوّي: "يا فتية الانتفاضة الإسلامية، إن الحجارة التي تقاتِلون بها العدوّ الصهيوني، هي أقوى من كلّ سلاح موجود على هذه الأرض".
7 - الشهيد صلاح غندور "ملاك" 25/4/1995 - المكان: مركز الـ17 - بنت جبيل. - النتيجة: تدمير خمس آليات بشكل كامل. القتلى الصهاينة تجاوز عددهم الثلاثين. العدو يصف العمليّة: "إنّها ضربة قاسية". "ملاك" سقط الكلام في حَضرة دمك... فما قيمة الصورة إذا وجد الأصل؟! لم يعد سِراً... كمْ كنت بحراً وضوءاً متعدّد الإشراقات... والمسافة بيننا وبينك... تماماً مثل محدوديّة ضوء الشمعة، أمام امتداد نور الشمس. ما الذي طمأنك، وجعلك تُهندم بيديك عبوات انفجارك، وتُشرق إذ تتيقّن أن نهارك سيكون عاصفة، وأنّ ملاقاة الحسين عليه السلام ستكون بلا رأس ولا جسد؟ قبل أيام قليلة من تنفيذ العملية الاستشهاديّة، قال له سماحة السيد حسن نصرالله حفظه الله خلال لقاء وداعِيّ: "عمليّتك الاستشهادية توازي عملية الاستشهادي أحمد قصير على المستوى السياسي والعسكري.. وفّقك الله وأنت منتصر بإذن الله".
8 - الشهيد الشيخ أسعد برّو 1989 - المكان: القليعة- منطقة مرجعيون. - النتيجة: أكثر من 25 إصابة بين قتيل وجريح. شيخ الاستشهاديين صغيراً كان، يصحبه والده معه إلى مجالس عاشوراء في الأوزاعي، فيُنصت مثل خاشع، ويبكي مثل متألّم، وكلّما انتهى مجلس سأل السؤال ذاته: "ما معنى يا ليتنا كنّا معكم".. الآن.. نسألك كيف قرأتها، حتى وجدت ما وجدت، فمضيت، مرّة، ومرّتين، وثلاثاً، ولمّا لم يتيسّر العروج لك، بكيت، وناجيت.. وكانت المرة الرابعة.. تناثرت، فهدأت.
قضي القضاء ودمّرتهم، ولبّيت نداء الحسين عليه السلام في أيام عاشورائه.. الله وليّ التوفيق.. وأنت حسينيّ خالص، يشتهي نبضك ونقاءك، بقيّة العابرين.
9 - الشهيد علي أشمر 20/3/1996
- المكان: مثلّث العديسة - ربّ ثلاثين. - النتيجة: سقوط الموكب القيادي الصهيوني القادم من مستعمرة مسكفعام بين قتيل وجريح.. العدو الإسرائيلي يصرّح: "إنها عمليّة لم نرَ مثيلاً لها في الحزام الأمني منذ وقت طويل". قمر الاستشهاديين نادته الأرض وهو يلفّ جسده المكسوّ بالياسمين، بحزام مثقلٍ بالمواد المتفجّرة..إلى أين يا "طربونة" الأرض... يا غصن اللوز... يا قمر الزمان... إلى أين يا جسداً يسّاقط منه الفلّ... ووجهاً ينفض الهمّ... كاللّون الأخضر في الأحلام؟
كان العبور عصيباً، والوصول إلى مكان الهدف لا يتحقّق إلّا بعين الله.. والإخوان يتابعونه من بعيد، يعبر وحيداً، يخترق أمنهم المحكم.. رأوه يمشي على الأرض، ولا يمشي.. فمثله قد حلّق منذ وقت، وارتفع. ها هو قريب منهم، لكن صوت الأذان إلى جوارحه أقرب، ترك موكب العدوّ يمرّ ولم يتقدّم... ترك القافلة، وانشغل بالصلاة، فباسمها كان الوصول..وباسمها خُلِّد في القلب والذاكرة ، "قمر الاستشهاديين".
10 - الشهيد عمار حمود 30/12/1999 - المكان: مثلث القليعة - الدمشقية - مرجعيون.
-النتيجة: العدو يصاب بالصدمة - العمليّة ضربت في العمق في ذُروة التشدّد الأمني والعسكري، حيث مشارف الاندحار الذليل من جنوب لبنان. حسام الاستشهاديين يكبر عمار، في زمن جهاديّ تحدّه كل الأرض المحتلّة.. قليل من العمر، ويضيء مثل قنديل.وهذا الطريّ، يعشق عن علم ومعرفة، مناجاة:
"وأنّ الراحل إليك قريب المسافة، وأنك لا تحتجب عن خلقك إلّا أن تحجبهم الأعمال دونك". بهذا العرفان أصبح عمار... والله يتولّى رعاية من يحبّونه. وهو الذي يحبّ الصيد الثقيل، التحق بسرايا الاستشهاديين.. وهو المطمئنّ أن الاختيار من عند الله، جاءته البشارة في رؤيا قبل أيام ثلاثة.. يخبره أمير المؤمنين عليه السلام "نفّذ العملية وأنا أتولّاها..". وفي شهر رمضان المبارك، وليلة الجمعة، وليلة القدر الكبرى، وليلة القدس، وصل عمّار إلى الهدف الذي وصل إليه أكثر من مرّة مستطلعاً..المرحلة نارية، والنقطة حساسة جداً، والجسد الطريّ يمزّق أمن الصهاينة وجنوده.
قال كلمات ثلاثة أخيرة: "فزت وربّ الكعبة"، ثم فجّر وعبر..عمار حمود.. من ينسى ليلتك الإلهيّة؟!