عفاف الحكيم المنطلق العدد(29) محرم 1406 الموافق تشرين الأول 1985
من البديهي القول أنه ما من مسلم واع في ايامنا هذه إلا وأصبح يعيش حالة من الوضوح في الرؤيا..وبات يدرك بان أبلغ ما أصبنا به-من جراء الهجمة الإستعمارية الشرسة- هو شخصيتنا الإسلامية أو كياننا الإنساني الذي كان بمثابة حصن الأمة ودرعها الواقي.. وبات الآن يعي أبعاد التراجع المميت الذي منينا به أمام محالات التغريب..فأدرك ولو بعد وقت فداحة الثغرة التي دفعت بمقدرات المسلمين إلى ايدي من غفلوا عن نهجهم وتملكهم حب الدنيا، فكان ان استباحوا الارض ثم اياحوها بما فيها وبمن عليها..
كذلك ما من واع اليوم إلا وبات يدرك بأن الفضل الأكبر في صد هذه الهجمة...إنما يعود إلى حصون الإسلام، وإلى البيئ التي بقيت رغم المد والجزر تتوهج بنور القرآن وتعاليمه مواصلة سعيها وتماسكها، مع عظيم التضحيات..إلى أن عمت الصحوة الإسلامية. وتم في الشعب المسلم في إيران التحول الروحي والمعنوي المطلوب-وفق السنن الإلهية- فكان أن تم النصر وبزغ فجر الإسلام من جديد.
المسلمة والتحول: وحيثما أن التغيير الذي تم في إيران استند على الإسلام والقرآن، وكان امتدادا لثورة رسول الله(ص) كان من البديهي لأي متأمل في مسيرة هذا الشعب أن يمتلئ غبطة بروعة دور المرأة فيها..وان يمتلئ أسى في الوقت نفسه لواقع المرأة المسلمة في المجتمعات المتحللة التي لا زالت تلهث وراء سراب ما يسمى بالحضارة الغربية. فالمرأة برزت من خلال الثورة الإسلامية في كل خندق، وخلف كل متراس، في الكتابة والخطابة والأمور السياسية والعسكرية والإجتماعية.. والمهم في الأمر أن تواجدها في هذه المجالات، لم يكن تبريريا بمعنى انه عمل على إبرازها هنا وهناك بشكل استعراضي شأن الثورات الهزي
..وإنما كان تواجدا أملاه الفكر الذي تستند إليه هذه الثورة، أملته شريعة القرآن، التي تؤكد على مشاركة الناس ذكورا وإناثا في تقرير مصيرهم.. إن سياسيا او اجتماعيا أو فكريا.. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن، الله أعلم بإيمانهن، فإن علمتوهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار..) الممتحنة/10.
(إنا عرضنا الأمانة على السموات والارض فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان..) (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) ففي الآية الأولى يؤكد تبارك وتعالى على الحق في تقرير المصير.. وفي الآية الثانية يتبين بأن المكلف بالنهوض لحمل الأمانة وإقامة المجتمع العابد العادل في الارض هو الإنسان الرجل والإنسان المرأة.
أما في الآية الثانية فبين تعالى كيفية النهوض المشترك عبر مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن المعلوم أن المعروف هو: كل ما دعا إليه الإسلام وهو كل خير في الأرض، وأن المنكر هو: كل ما نهى عنه الإسلام وهو كل فساد في الأرض. وبناء عليه يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مسؤولية الرجل والمرأة على حد سواء-كما تؤكده الآية الكريمة- عبارة عن ثورة دائمة لتعطيل كل فساد في الأرض، وإقامة العدل في كل الميادين. المسلمة والثورة الإسلامية: مما تقدم ندرك بأن مسيرة المرأة المسلمة في إيران إنما انطلقت ضمن الإطار الذي حدده الله لها للإسهام بدور الخلافة على الأرض..وما نهوضها العظيم في ظل ولاية الفقيه لتواجه كامل المسؤليات إلا تجسيدا لشخصيتها الرسالية بعد أن فتح أمامها الباب على مصراعيه كما فتح في ظل ولاية رسول الله(ص).
فالمشاركة الجهادية الفعالة جعلتها-كما في الماضي..-تسطر أروع المواقف البطولية، والتي كما لاحظنا تحير معها المراقبون في هذا العصر، واندهش الناس حتى أن بعض المتدينين من البسطاء رأى في تلك المشاركة نوعا من التطرف.. بينما رأى فيها آخرون أنها نوع من الإنفتاح والتطور الذي اكتسبه المسلمون بتأثير الحضارة المادية الحديثة. وقد غاب عن هؤلاء ان هذا الدور الثوري العظيم ليس إلا الصورة المثلى للمرأة المسلمة كما رسمها الإسلام.
وان المرأة الإيرانية في هذا السبيل لم تكن مندفعة بعوامل العاطفة والمشاعر الوقتية، وإنما عن وعي منها لدورها الجهادي وللمسؤولية الشرعية التي تلزمها بعدم الركون للظالمين، ولذا ارتفعت إلى مستوى الأحداث بيسر، وتقدمت لتضع جميع إمكانياتها في كل المجالات من أجل المساهمة في تقويض النظام الطاغوتي الفاسد وإقامة حكم الله في الأرض. ففي مجال إثارة الوعي لدى الجماهير: برزت مساهمة المرأة الإيرانية في التواجد المكثف في المساجد والحسينيات في أوقات الصلاة والدعاء وعبر المشاركة في الخطب الحماسية لإزاحة غشاوة التضليل التي غشى بها النظام أعين الناس. كما أخذت على عاتقها توزيع المنشورات السرية معرضة نفسها للإعتقال ولأقصى أنواع التعذيب الذي كانت تنزله السلطة بكل من يمارس نشاطا إسلاميا..
فكان أن دخلت العديدات منهن السجون. وفي مجال التبرعات: فقد كانت النساء في المدن والقرى يجتمعن في المساجد والأماكن العامة لجمع المساعدات اللازمة لتمويل الثورة..بذلن ما يملكن من المال والمجوهرات.. بل يمكن القول كما -يقول أحدهم- أن التبرعات النقدية والعينية التي تبرعت بها المسلمة في إيران قد لا تمر في بال ولا تخطر في خيال ولم يسمع الناس نظيرا لها في التاريخ.هذه المشاعر الحية شملت المسنات منهن، بحيث كن يتقدمن بكل ما لديهن من حلي وأقراط ونقود حتى أن إحداهن باعت سجادة الصلاة التي لا تملك غيرها وتبرعت بثمنها..
في مجال المظاهرات: فقد كان لها دور فعال عبر المشاركة في المظاهرات المليونية الصاخبة، التي لم يشهد العالم مثيلا لها.. بالإضافة على الدور الخطير الذي أدته في تظاهرات الرجال إذ كانت تقوم بصنع حزام حولهم كي لا يطلق الجند عليهم الرصاص.. وفي هذا المجال تروي شاهدة: أنه في أنه في إحدى المسيرات أنذر الجيش التظاهرة بالتفرق، فرفضت النساء وبقين متمسكات بموقفهن، حتى أنها رأت السيدات يتساقطن صفا بعد صف كما تتساقط أوراق الشجر.. وتقول اخرى: أنها رأت الجندي الذي أطلق النار على نفسه وعلى ضابطه الذي أمره بإطلاق النار على السيدات.. وكان أن قدمت المرأة في هذا اليوم –يوم الجمعة السوداء- ثلاثمئة شهيدة قربانا للإسلام. كما شاء لها تعالى أن تسجل بكل فخر واعتزاز أن أول شهيدة سقطت في الثورة كانت امرأة.
وفي المجال العسكري: فقد تدربت على السلاح وحملته إلى جنب الرجل، وقامت بصنع القنابل الشعبية (مولوتوف) التي كانت تتساقط بكثافة من شرفات المنازل لعرقلة تقدم جيش الشاه المخلوع، كما ساهمت بدور بارع في نقل الجرحى وتضميدهم. أما على صعيد الجهاد الأكبر الذي هو جهاد النفس: فقد ارتفعت المرأة على هذا الصعيد إلى أعلى عليين..فالمسلمات كن كما المتوقع منهن، كن يستقبلن شهادة الولد أو الأخ أو الزوج بقول الحوراء زينب(ع) "اللهم تقبل منا هذا القربان".
كانت الأم منهن تضحي بولدها وتنساه، فلا يبقى من مؤثراته إلا الشموخ والإعتزاز، كانت تتذكر فقط أنها قدمت شهيدا للإسلام، ولا شك ان حالة الإفتخار والذوبان هذه التي جسدتها الأمهات كانت تلهب مشاعر الجماهير وتدفعها إلى تصعيد التحدي والتحرك نحو الهدف بشوق كبير..فعلى سبيل المثال: يروي أحد الأشخاص –يومذاك- وكان يقف أمام مقبرة الشهداء في طهران أنه رأى إحدى الأمهات توقف سيارتها، ثم تتقدم وهي تحمل ابنها الشهيد على يديها لتسلمه إلى المعنيين بعد أن ترمقه بنظرتها الحانية، وتقول له مودعة: "شكرا لك يا ولدي إذ جعلتني أما لشهيد" ، ثم تعود أدراجها لتواصل عملها الجهادي.
حتى انه وصل الإيمان بالأم الإيرانية أن جعلها ترتفع فوق عاطفتها فتعين المجاهدين في سبيل اله على اعتقال ابنها الذي رأته يعمل ضد الثورة، وتقدمه لتنفيذ حكم الله فيه.. وقد قالت إحداهن عندما سمعت بخبر تنفيذ حكم الإعدام بابنها "أشكر الله على إزالة الشوكة التي كانت تعرقل خط الثورة والإسلام -ثم تتابع- إنني أوصي وأنصح الأمهات والآباء أن يغضوا النظر عن المشاعر والعواطف الدنيوية والمادية اتجاه أبناءهم. ويأخذوا بنظر الإعتبار العقيدة الإسلامية". هذا الزخم الرسالي والتفاعل العظيم بين المرأة والثورة لا يمكن أن يحدث في أي بقعة من الأرض إلا عندما يقود الإسلام حقا، وهذا يدركه كل متأمل في التاريخ الجهادي للأمة المسلمة، إذ يلاحظ بأن أخصب عطاء للمرأة تمثل في حقبتين اثنتين –أي صدر الإسلام الأول وأيامنا هذه- ولا ريب أن هذا يعود إلى قيام دولة العدل الإلهي في كلا المرحلتين، والأمر من الوضوح بمكان ولا يحتاج إلى تفصيل.. إنما أردنا تبيان ما للقادة من دور مهم في تفجير طاقات الأمة بشكل عام وطاقات المرأة بشكل خاص.. ومن هنا يحق القول: بأنه إن كانت تشريعات الإسلام قد شكلت الحافز الأول لهذه المواقف البطولية التي أدتها المرأة في إيران، فإن الحافز الثاني يعود لولي الأمر، لقائد الثورة الإمم الخميني (حفظه الله)،
وتوجيهاته الحكيمة التي عملت للإرتفاع بكل أعضاء المجتمع إلى آفاق النهج الرسالي، إذ تجده في كل خطبة يتوجه لجميع فئات الشعب دون تمييز، بل قد يخص المرأة أحيانا بتحريضها على أخذ مكانتها الإسلامية الحقيقية والدخول إلى ساحة النضال، وإلى حمل السلاح في وجه الطاغوت، طالبا منها أن تنهض وتقتدي بالزهراء(ع) التي كان لها دور هام في جميع الشؤون الحياتية سياسيا واجتماعيا، وعلى سبيل المثال نورد بعض المقتطفات من خطبه النيرة، ملاحظين الروحية التي كان يتحدث بها إلى نساء الأمة. -إذ يخاطب وفدا من نساء قم يضم حوالي ألف امرأة يقول: تحية لكن يا كل نساء بلادنا اللواتي كن المعلم للرجال في هذه الإنتفاضة الشريفة، ولازلتن على هذا السبيل. ..
ولو لم تكن هناك أية مكاسب لهذه الثورة سوى هذا التحول الذي حدث في نسائنا وشبابنا لكان ذلك كافيا لبلدنا. ويتابع: فدور المرأة أعظم في المجتمع من دور الرجل. ذلك لأن النساء فضلا عن كونهن يشكلن فئة فعالة في كل المجالات، فهن يربين الفئات الفعالة الأخرى في أحضانهن. -ثم يخاطبهن بقوله: حافظن على هذا التغيير.. كن مستقلات في تفكيركن ولا تتبعن أفكار الآخرين، واسعين بأنفسكن لتكن مفيدات لبلدكن، وقمن بهداية الرجال وإسداء النصح لهم، وقدمن النصح لمسؤولي البلد، وكن أمهات صالحات واستمرن في أداء النصح والخدمة للفقراء.. وحمدا لله، أنتن تقمن بهذه الأعمال. أما مندوبات سيدات إيران فيخاطبهن بقوله: التحية لكن أيتها البطلات اللاتي حررتن الإسلام من أغلال الأجانب. أنتن أيتها الأخوات العزيزات بالتكاتف مع الرجال قد حققتن النصر الساحق للإسلام.. ويتابع: فجميع قوانين الدين الإسلامي إنما شرعت لصالح المرأة والرجل معا..
يجب أن تشترك المرأة في تقرير مصير البلاد. يجب عليكن بناء الوطن، لقد كانت المرأة في صدر الإسلام تساهم مع الرجل في جبهة القتال أو متقدمة عليه في بعض الأوقات، قد بذلت حياتها وحياة أطفالها وأشبالها الشباب، ولا زالت واقفة وهي تقاوم. نحن-يقول الإمام- نهدف الشموخ بالمرأة إلى قمة الإنسانية العليا. إن المرأة يجب أن تقرر مصيرها بنفسها.. إن عهد الإضطهاد والإستبداد أراد للمرأة المناضلة أن تتحول إلى دمية.. ولكن الله تعالى أبى ذلك. إنهم أرادوا تحويل المرأة إلى متاع، لكن الإسلام جعلها كالرجل في كل الشؤون، فكما يستقل الرجل في كل شؤونه، تستقل المرأة في كل شؤونها. وإذا ما أضفنا إلى هذا قول الإمام بأنه "من أحضان الأمهات تعرج الرجال إلى العلياء" و "لولا المرأة لما انتصرنا" فلا بد أن نكتشف سر القفزة وعمق الأثر البناء الذي تتركه العقيدة الإسلامية في حياة المرأة البعيدة عن العبث واللهو.. هذه المرأة التي ما أن توفرت لها مقومات النهوض حتى اضطلعت بدورها كاملا وسطرت في صحائف التاريخ دروسا قيمة كان لها على مستوى العالم وسيكون لها بإذن الله أبعاد..
المسلمة والمقاومة الإسلامية: كان من الطبيعي للثورة الإسلامية في إيران، من أن توقظ كل الطاقات البشرية المسلمة في مختلف الشعوب، بعد أن طرحت في الساحة الكثير من الحقائق. فمن جهة أبرزت قدرة الإسلام كنهج في أن يحقق خوارق في النفوس التي تتلقاه وترتبط به، وقدرته كذلك كنهج في أن يقود البشرية وينهض بها من كبوتها، مضافا إلى هذا ما نحن بصدده، وهو إعادة المرأة المسلمة إلى دورها الحقيقي في الحياة. وإنه مع وضوح هذه الحقائق واقترانها بالوقائع المفرحة، كان من الطبيعي أن يصبح حب الإسلام وحب الثورة الإسلامية وقادتها جزءا لا يتجزأ من كيان كل مسلم ومسلمة..
فالأدوار البطولية للمرأة هناك، إذا كانت في نظر البعض فريدة في تاريخنا الحديث، فإنها في نظر المسلمين جزء لا يتجزأ من تاريخهم النضالي المشرق الذي شاركت المرأة بكتابته بدمائها وسجلت فيه أسمى التضحيات..المسلمة في إيران ليست سوى السباقة إلى النهوض والتأسي بعد عصور الإنحطاط الطويلة..
كما وأن الثورة الإسلامية ليست سوى السباقة في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه في دولة رسول الله(ص). ومن هنا كان لهذه المرأة ولهذه الثورة تأثيرهما البالغ في أجواء المرأة المسلمة في العالم عموما، وفي لبنان وجنوبه المظلوم على الخصوص. فالمسلمة في لبنان التي جاهد المستعمر لتذويب شخصيتها وسلخها عن أصالتها لتركن في ظلمات العبث والضياع أو تستسلم لذل ما يسمى (بالأمر الواقع) وجدت نفسها فجأة تستيقظ على المثال القدوة.. والنموذج الحي.. فصورة المسلمة الثائرة في إيران جسدت أحلامها المكتوبة وأعادت إليها صلتها بتاريخها، جددت خواطر كانت تعيش في وجدانها وتتفاعل مع أحاسيسها ومشاعرها.. جعلتها وجها لوجه أمام نفحات من شموخ الزهراء وصلابة زينب (ع)، وشهادة سمية وحيوية نسيبة..
وهكذا بدأ التفاعل يكبر، وبدأت مراجعة الحسابات، وبدأ التحول الروحي والمعنوي بشق طريقه بعمق، وكان أن شهد مجتمعنا هذه القفزة النوعية الكبيرة على صعيد الإلتزام الدقيق بتعاليم الإسلام.. وأنه عبر هذه القفزة، تمكنت المسلمة في لبنان من تسديد أول ضربة لأحلام الأعداء ومخططاتهم.. فالكابوس الذي كان ولا زال يقض مضاجعهم، هو عودة الإسلام إلى الحياة كسلوك عملي يقود حياتنا كأفراد وحياتنا كأمة.. وهذا ما تنبه له بن غورين قبل موته حين تحسس بداية الصحوة الإسلامية إذ قال: "إننا لا نخشى الثوارت ولا الإشتراكيات والديمقراطيات في المنطقة، ما نخشاه هو الإسلام ذلك المارد الذي نام طويلا ثم اخذ يستيقظ من جديد".
وبعد أن تحقق الإنتصار في إيران قالت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا: "إن العشر سنوات القادمة هي من أحلك السنوات بالنسبة إلى السيادة الغربية لأنها باتت هذه المرة مهددة بخطر حقيقي غير خطر الإتحاد السوفياتي ، وهو خطر الإسلام، وهذا الخطر هو خطر مسلكي وحضاري أكثر مما هو خطر عسكري". وقال دايان أمام وفد من الأميريكيين اليهود: "أن على دول الغرب وعلى رأسها الولايات المتحدة أن تعطي اهتماما أكبر لإسرائيل باعتبارها خط الدفاع الأول عن الحضارة الغربية في وجه أعاصير الثورة الإسلامية". ولا شك أنه عبر هذه الأقوال الصريحة يمكننا –ولو بقدر- أن ندرك أبعاد انتصار الثورة وتأثيرها، وأبعاد تفاعل المسلمين معها.
ويمكننا بالتالي أن نعي قيمة الزخم الروحي والمعنوي الكبير الذي مدت به مجتمعنا، فأحدث تلك التحولات الهامة والتي سنحاول أن نقف مع ما يخص الجانب النسائي منها.
1-التحول العملي نحو عيش الإسلام: لقد أصبح الإسلام فعلا يقود حياة نخبة كبيرة من الفتيات والنساء في مجتمعنا، مع تقدم مجموعات كثيرة أخرى ولو بنسب في هذا الإتجاه. وقد نجم عن هذا تغييرات شملت نمط حياة الفتاة كلها، واحدث تأثيرا كليا على نظرتها إلى الحياة وتعاملها معها، وعلى سبيل المثال: يمكننا أن نتأمل ماهية الأشياء التي كانت قبل سنوات تجتذب أكثر الفتيات والنساء قبل الإلتزام وبعده، فسنجد أن المعايير الجوفاء التي كانت ذات قيمة كبرى في نظرهن صارت اليوم بلا قيمة.. لنتأمل ما كانت تقرأه فتياتنا قبل الإلتزام وبعده، ونقارن بين تهافتهن السابق على مجال الخليعة، وإقبالهن اليوم على على المجلات والكتب الإسلامية، لنتذكر كيف كانت تقطع أوقات الفراغ سابقا، ولنتأمل تدفق المئات من النساء والفتيات إلى الحسينيات والمساجد والأماكن العامة التي تقام فيها المحاضرات والندوات والمعارض.
لنلاحظ الفرق بين الأغاني المائعة التي كانت سائدة في أجوائهن بالأمس، وبين هذه الأناشيد التي تردد اليوم، إن فتياتنا اليوم يتغنين بنشيد النصر أو الشهادة، بنشيد التقدم للبذل والتضحية. وإنه لتفاوت أساسي واضح، حين تصبح أول كلمة ينطق بها أطفالنا هي كلمة الله أكبر، واول جملة يهتفون بها هي النصر للإسلام والموت لإسرائيل، وأول دعاء يتوجهون به هو الدعاء للقادة وللمجاهدين،
وأول أمل يحلمون به هو الشهادة في مواقع العزة والكرامة.. إنها لنقلة كبرى ولا شك، بين هذا وبين ما كن عليه من افتخار بأدوات الذل والضياع، من سهر وسفر ولهو وبذخ في اللباس والمسكن والملبس.. إن مقارنة سريعة بين الوضع السابق للعديد من الأسر وبين وضعها اليوم وما فيه من نقاء تربوي وطهارة أخلاقية، لتظهر لنا الحقيقة الكبرى لهذا التحول العظيم بكل وضوح، وتظهر لنا الصورة المشرقة لجهاد المرأة المسلمة وقدرتها على التغيير..
2 -كسر حاجز الخوف: المسلمة في لبنان أصبحت بعد انتصار الثورة تعيش حالة من الشوق لمواجهة أعدائها وتحديهم. فالتعديل الذي أدخله الإلتزام الدقيق بتعاليم الإسلام في حياتها، جعلها أكثر إدراكا لعدوها ولدورها، وأكثر تحسسا لمسؤولية الجهاد كتكليف شرعي.. لقد باتت تعي وتعيش بأنها مسؤولة إسلاميا مثلها مثل الرجل عن مقاومة الظالم والمحتل، وان واجبها في حالة الجهاد الدفاعي أن تنهض بما لديها من وسائل وأسباب لتحطيم طغيانهم. المسلمة في لبنان اليوم منسجمة كليا مع نفسها بعد أن ربطت مسيرتها بالله دوافعا وأساليب واهداف وأصبحت تعيش لونا من التماسك في الشخصية عبر وحدة في الفكر المشاعر والسلوك، وهذا ما جعل الإرادة الواعية تتجلى عبر المواقف الشجاعة في بيروت والجنوب وسائر بقاع لبنان وتحدث ذاك الوهج الرسالي العظيم. وإن قرى جبل عامل اليوم لتشهد بهذا،
بعد ان أصبحت قلاعا بفضل الأمهات والأخوات هناك.. لنتأمل كيف راح الإيمان يدفع بالمرأة الجنوبية إلى مراتب السمو، فتتحرك لتحرض الأخ والزوج والأبناء، ومن ثم تنهض لتكون في حالة استنفار دائمة. فمن المراقبة الأمنية الواعية عبر الحواكير والحقول ومن على سطوح المنازل لتفشيل عمليات العدو ودهمه المفاجئ لاعتقال المجاهدين، إلى نزولها في الساحة علنا مع صغارها لتحدي المحتل بهتافات "الله أكبر"،
إلى ملاحقتها للآليات والجنود بالحجارة غير هيابة، او محاصرتهم في الشوارع الضيقة وصب الزيت المغلي فوق رؤوسهم. المسلمة في الجنوب بعد التصاقها بتاريخها الإسلامي، باتت تعي أن المسجد متراس.. ولذا نراها تنهض بقوة لتلبي نداء المسجد والحسينية، فتهرع مع أطفالها بشوق لا في أوقات الصلاة والدعاء وحسب، وإنما كذلك لإعلان الإحتجاج والإعتصام ووحدة الكلمة..
3-الإعتذار بالشهادة: بعد الثورة الإسلامية المباركة، بات للإستشهاد نكهة خاصة في ربوع الأمهات والأخوات والزوجات هنا..وذلك بعد أن عشنا من خلال نساء إيران كيفية التفاعل العملي مع نداءات الحسين(ع) وهتافات زينب(ع) في أيام البذل السخي في كربلاء. لنتأمل اليوم روعة التحول في تلك الأحاسيس والمشاعر، وكيف باتت نارا تحرق وصورا تضيئ، لنتأمل كيف راحت العاطفة تسمو في قلب الأم الجنوبية وهي تنهض لتلبي نداء الفداء للإسلام. والدة الشهيد السعيد الشيخ راغب حرب التي كان لها شخصيا مع العدو وقفات تشهد بقوة المؤمن وما يتميز به من صلابة وجرأة، قالت بشموخ زينبي حين استشهد ابنها الجليل: "حسبوا أنهم قتلوا الشيخ راغب ونحن سكتنا، لا على الإطلاق لن نسكت، وما زال عندي خمسة أبناء، وأتمنى أن يموتوا مثلما مات الشيخ راغب".
-أم أخرى من تلكم البطلات، كانت تأتي لابنها الشاب محرضة من وقت لآخر لتقول له: ما لكم جامدين يا بني، يوميا نسمع عملية هنا وعملية هناك وأنتم لا تفعلون شيئا. تقول له هذا وهي تعلم بأن ابنها كان من السباقين، إلى ان شقت طريقها وأصبحت في الجهاد معه.. وذات يوم تتلقى هذه الأم نبأ استشهاد ابنها البار، فيجهش أخاه الذي لازال يشكو من إصابة بالغة أثناء الإجتياح، لكن الأم البطلة تتقدم لتحتضنه قائلة: "لا أريد أن تنزل دمعة من عينيك، أخوك ذهب غاليا، أخوك شهيد، أولسنا نعد أنفسنا جميعا لهذا..
" شيئ واحد بقي يعتصر قلب هذه الأم –كما تقول- لفترة. فقد قيل لها أن ابنها استشهد حين فاجأه كمين في إحدى العمليات، فكانت تتخيله سقط وظهره للعدو.. ولكن عندما علمت أنه سقط وهو يواجههم وجها لوجه ليحمي رفاقه، سرّت وسجدت لله شكرا لأنها –كما تقول- كنت أرغب أن أراه كبيرا كما ربيته.
هذه الأم الزينبية حين رأت ابنها الثالث ساهرا، وهي تدرك بما يفكر، تقدمت منه قائلة: لا تتصور يا بني بأن وضع البيت لا يسمح لك بمواصلة الطريق، إمض، والله معك، وأنا معك.. ترى، أبغير الإسلام كان يمكن للأمهات أن يرتفعن لهذا المستوى شموخا وقوة وصلابة! لنتأمل رباطة الجأش التي تستقبل بها الأم المسلمة اليوم نعش ابنها الشهيد: يد على النعش، ويد إلى السماء، وهتاف من القلب "اللهم تقبل منا هذا القربان". لنتأمل أية شجاعة هي التي تجعل من فتيات "طورا" الباسلات يتقدمن للمواجهة، ويستقبلن رصاص العدو الإسرائيلي من مسافة متر فقط.
أي لون من الشجاعة يجعل الفتاة الجنوبية تخرج للجهاد ليلا، فتقود سيارتها مع زميلة لها، وحين يطاردهن كمين وتعتقلان، تجيبهم بجرأة الحق وقوة المؤمن-"لا يحق امن احتل أرضي واعتقل خطيبي وأهدر كرامتي ان يسألني لما أفعل هذا". ويحاول العدو بعد شهور إطلاق سراح زميلتها فيفاجأ بالأخوة الإسلامية وموقفها التعزيزي "إما أن أخرج معها وإما أن لا أخرج!". ترى أي معادلة هذه التي تجعل المستبد يتآكل غيظا وتجعل المقيد يزهو اطمئنانا.. إذ يقول رابين:"بدخولنل إلى الجنوب، أخرجنا المارد من القمقم". ويقول أحد جنرالاتهم:"كنا هناك وكأننا على كوكب آخر، لا نفهم كيف نواجه ما يدور حولنا".
ويقول ضابط آخر:"لقد فجئنا بأننا نقاتل أناسا يحبون الموت". -أما نحن، من يرى ويسمع ويشهد هذه الإنتصارات التي تسطرها المقاومة الإسلامية الباسلة، والتي لم تكن تخطر ببال، فلا بد أن يقول -ولو بينه وبين نفسه- ما الذي قيدنا كل تلك السنين؟ ولا شك أن محبي الحقيقة سيصلون إلى أننا حرمنا من تأدية الدور يوم أبعد الإسلام من حياتنا عمليا، وعدنا لننههض به حين عاد الإسلام يقود حياتنا من جديد.
وهذا ما يجعلنا اليوم ندرك لما كان الإسلام هو الهاجس المرعب لقادة إسرائيل ومؤسسيها، وندرك بالتالي، أن القضية أولا وأخيرا بأيدينا وأننا نحن من يصنع النصر او الهزيمة.. نساء الإسلام وفتياته اليوم في الجنوب، مدرسة للرجال الذين ارتموا تحت أقدام الذل في اقبية شياطين العصر على أساس أنهم لا يستطيعون شيئا. الأمهات هنا يلقّن هؤلاء درسا بليغا في كيفية الرفض والإصرار، رفض جعل الأبناء خدما وعبيدا لإسرائيل والإصرار على تربيتهن كما يريد الإسلام. الجنوب اليوم يقف برجاله ونسائه وشبابه وأطفاله وفتياته، وفق ما يمليه الموقف الشرعي، وهذا هو سر الإنتصار..
ومن هذا المنظور فقط سقط منطق الإستسلام للأمر الواقع، ومنطق الإتفاق المخزي، وفوق هذا سقطت أسطورة ما يسمى بقوة إسرائيل التي لا تقهر. وغدا ستسقط بإذن الله أسطورة إسرائيل كدولة نهائية، بعد اقتلاعها من الجذور- كما يملي الموقف الشرعي.
. المنطلق/العدد(29) محرم 1406ه الموافق تشرين أول 1985