د. أميمة عليق(*)
إنّ أهم مفهوم في المواضيع الدينيّة، هو مفهوم الله. وعندما يتحدّث أحدهم عن تجربته الدينيّة فهو في الواقع يتحدّث عن علاقته بالله وإدراكه له وليس شيئاً آخر. وإذا ما حذفنا مفهوم الله، فإنّ الموضوع الدينيّ يتحوّل إلى موضوع آخر.
فكما أنّ تبيان التجربة العلميّة للفيزيائيّ دون الالتفات إلى المادة، وللفيلسوف دون الالتفات إلى الذهن، ولعالم الأخلاق دون الالتفات إلى القيم الأخلاقيّة أمر غير ممكن، كذلك، فإنّ البحث الدينيّ دون مفهوم الله هو أمر لا معنى له.
فالتربية والتعليم الدينيّ يستوجبان التأكيد، وبشكل أساسيّ، على المواضيع المرتبطة بالله.
*كيف يدرك الأطفال المفاهيم الدينيّة وخاصّة الله؟
إنّ الطفل، خلال عملية النموّ، يفهم ويحلّل المسائل الدينيّة من خلال قدراته، ومحدوديّاته وإمكاناته الذهنيّة. وتنشأ المحدوديّات من الآنوية (egocentrism) التي تكون حاضرة في المراحل العمريّة الثلاث الأولى. والآنوية [من الأنا]، تعني عدم قدرة الطفل على التمييز بين وجهة نظره ووجهة نظر الآخرين، وهي تلعب دوراً مهمّاً في تشكُّل الدين التلقائي. الاصطناعية (artificialism) أيضاً، هي نوع من أنواع الآنوية، وهي التي تخلق في الطفل فكرة: أنّ العالم قد خُلق على يد أحد أو شيء ما، وعلى هذا الأساس، وفي فترة من نموّه، ينسب الطفل الصفات الإلهيّة، وخاصّة الفهم المطلق، والقدرة المطلقة، إلى والديه ومن ثمّ إلى البشر كافّة.
لكن الاصطناعية التي هي ظاهرة نمائيّة تتحلّل مع عبور المراحل العمريّة، ومع ظهور آفاق ذهنيّة جديدة يستطيع الطفل أن يعرف حدود قدرة الإنسان، فيمتنع عن نسبة هذه الصفات له، بل ينسبها إلى الله. في الواقع، إنّ إدراك النموّ المعرفيّ، القيميّ، الأخلاقيّ والعاطفيّ للأطفال يساعد المربّين ليعرفوا كيف، وبأيّ طريقة، وفي أي وقت يمكنهم التدخّل لتغيير وتنمية المفاهيم الدينيّة، وبالتالي هداية ذهن الطفل في المسير المطلوب والمناسب.
*مراحل النموّ الدينيّ يقسم علماء النفس التطوّر الدينيّ عند الأطفال إلى خمس مراحل مختلفة:
- المرحلة الأولى: قبل سنّ السابعة، وهي المرحلة ما قبل الدينيّة، تتميّز هذه المرحلة بميزتين: الآنوية والنظرة الأحاديّة للأمور: إذ يصدر الطفل أحكامه على الأمور من وجهة نظره هو، ولا يستطيع أن يضع نفسه مكان الآخرين. على سبيل المثال: عندما نسأل الطفل: لماذا خاف النبيّ موسى عليه السلام عندما حاول النظر إلى الله؟ يُجيب: لأنّ صوت الله كان قويّاً جدّاً.
جواب بسيط، شخصيّ وماديّ بشكل كامل. لذلك ينظر الطفل في هذه المرحلة إلى الله على أنّه إنسان قويّ، يقوم بأيّ عمل يريده، صوته كصوت الإنسان وهو يسكن في الجنة. وأيضاً الأطفال في هذه المرحلة يردّدون الكثير من الكلمات الدينيّة دون أن يفهموا معانيها.
- المرحلة الثانية: بين الثماني والتسع سنوات، وتعتبر المرحلة الأولى للتفسير الدينيّ الناقص.
أ- يحاول الطفل فيها أن يصل إلى مرحلة التفسير المجرّد للمفاهيم الدينيّة، ولكنه لا ينجح.
ب- تنقص الآنوية عنده كثيراً ويقلّ الخيال بالنسبة للأمور الدينيّة. مثلاً حين نسأل الطفل عن سبب قداسة الأرض التي وقف عليها النبيّ موسى عليه السلام يُجيب لأنّ الله خلقها.
ثمّ نسأله أَوَلَم يخلق الله كلّ الأراضي؟ يُجيب طبعاً، ولكن هذه الأرض خُلقت بطريقة مختلفة.
ج- يستطيع في هذه المرحلة أن يربط بين الأحداث ويستفيد من التجارب التي مرَّت معه ويعمِّم هذه التجارب.
د- يحاول الطفل التفكير بشكل منطقيّ متسلسل، لكنه لا ينجح. وهو ينظر إلى الله على أنّه كائن أقوى من الإنسان. لكن علاقته بالإنسان تبقى غير واضحة عند الطفل.
- المرحلة الثالثة: بين التسعة والإحدى عشرة سنة، وهي المرحلة الثانية في التفسير الديني الناقص. في هذه المرحلة يغلب التفكير المنطقيّ الاستقرائيّ لكنه ما زال مرتبطاً بالأمور الماديّة. يستطيع الطفل أن يغيّر مسير تفكيره إذا فشل. يهتم الأطفال بالمفاهيم الدينيّة ويحكمون عليها من خلال تجاربهم الشخصيّة. فيُجيبون أنّ النبيّ موسى عليه السلام قد خاف لأنّ الشجرة كانت تحترق. ما زال تركيزهم على الناحية الماديّة للقصة ويتصوّر الأطفال الله تصوّراً ما ورائيّاً، وأنّ علاقة الإنسان بالله هي غير ماديّة.
- المرحلة الرابعة: وهي من الإحدى عشرة إلى الثلاث عشرة سنة، وهي المرحلة الدينيّة الشخصيّة. في هذه المرحلة يقترب الطفل أكثر من التفكير المجرّد، فيعتبر أنّ الشجرة المحروقة هي تجلٍّ لله أو أنها ملاك. في هذه المرحلة يتحدّث الأطفال عن صفات الله. - المرحلة الخامسة: (13 سنة وما فوق)،
وهي المرحلة الثانية للتفكير الدينيّ الشخصيّ. يصبح التفكير مرتكزاً على الفرضيات والقياس دون أيّ تعلّق بالأمور الماديّة. يختبر فرضياته ويعمل بشكل معكوس. فيقول، مثلاً، إنّ الله أرسل قدرة خفيّة استطاعت أن تشقّ البحر. على الرغم من أن الطفل يدخل في هذه المرحلة إلى التفكير المجرّد، لكن إجاباته لا تزال غير مجرّدة مئة بالمئة. ويرجع هذا الأمر إلى سببين:
الأوّل: هو أننا نُكسِب الأطفال الكلمات والعلوم المتعلّقة بحياتهم اليوميّة الماديّة قبل أن نكلّمهم عن المفاهيم الدينيّة.
الثاني: يرجع إلى كيفيّة الأسلوب الخاطئ الذي ننقل عَبره هذه المفاهيم؛ إذ إنّ الأسلوب المتّبع عادةً في التعليم الدينيّ يرتكز على الحفظ ونقل المفاهيم بشكل مباشر. فيما يتعلق بأساليب تعليم التلامذة حول الله والدين، يجب الالتفات إلى أنّ التعليم الدينيّ يجب أن يكون متواصلاً وفي كلّ وقت، لأنّ مفهوم الله والمواضيع الدينيّة مرتبطة بكافّة أمور حياة الطفل، ولا تتوقّف على وقت وزمان معيّنين.
*بمَ يرتبط إدراك الأطفال لله؟ هناك العديد من الأبحاث التي درست العلاقة بين نمط التربية وتأثيرها على نظرة الأطفال لله. فالأهل ذوو النمط المتساهل يُنشئون أطفالاً أقلّ ارتباطاً بالله وأقلّ التزاماً بالتعاليم الدينيّة. كما يؤثّر نمط التربية الوالديّة في الطفولة على مفهوم الله لدى المراهقين، على الأخصّ الله الحنون، إذ تنشأ هذه الفكرة من أمّ وأب يتميّزان بالحنان. كما أثبتت الدراسات أنّ هذه العلاقة لا ترتبط بالطبقة الاجتماعية أو الدين أو سنّ المراهقين. كما ظهر في الأبحاث أنّ للأم دوراً أكثر أهميّة في جعل مفهوم الله أكثر اجتماعيّة وبالأخصّ بالنسبة للفتيات. في الأبحاث التي طُلب من الأطفال أن يرسموا الله لجأ الأطفال إلى رسم الله على شكل نور.
وخلال التداعي الحرّ للمعاني اعتبروا الله حنوناً ورحيماً أكثر من اعتبارهم إيّاه قاسياً أو ظالماً. * عمليّاً ماذا نُقدّم للأطفال لمعرفة أعمق؟
أ- من عمر 4 إلى 5 سنوات: قصص بسيطة واضحة تتكلّم عن الصحّ والخطأ وعن الحقّ والباطل، ونُسمعه الآيات القرآنيّة المرتّلة بصوت جميل.
ب- من 6 إلى 8 سنوات: قصص تدور حول الله وترتبط بالأصول الأخلاقيّة، كما نُسمعه الآيات القرآنيّة.
ج- من 9 إلى 12 سنة: القصص التي تدور حول النماذج الإنسانية التي يجب أن يقتدي بها الطفل، وشرح الآيات المرتبطة ببعض العقائد الدينيّة الأساسيّة، كذلك يتم تخصيص وقت خاصّ للقيام بالعبادات وتعلّم الأحكام المتعلّقة بها، والبدء بحفظه الآيات القرآنية.
د- فوق عمر الـ13 سنة: الاهتمام بالقصص التي تؤكّد على تنمية المجتمع الديني، وينحو باتجاه الدراسة بشكل أعمق للعقائد الأساسيّة، ويمكنه فهم أهميّة المراسم العباديّة، واطلاعه على النصوص العرفانيّة والرمزيّة المتعلّقة بالدين. *لا ننسى أبداً
1 - أنّ إحساسنا بوجود الله الرحيم والمحبّ ينتقل إلى أطفالنا ويؤثّر على نظرتهم له سبحانه وتعالى.
2 - أنّنا الأفراد الأوائل والأهمّ الذين يجب أن نُحدّث أطفالنا عن الله. ولنشاور أهل الخبرة والعلم في البحث عن الإجابات.
3 - يجب ألا ننسب المصائب والأمراض إلى الله فيؤثّر ذلك على نظرة أطفالنا إليه.
4 - يجب ألا نهدّد أطفالنا بغضب الله؛ فيسيطر الخوف من الله على قلوبهم وتبقى هذه النظرة مرافقة لحياتهم.
5 - يجب ألا نجيب أطفالنا بإجابات خاطئة؛ لأنها سترسخ في أذهانهم وتشوّشها.
6 - استغلّي هبوط المطر وتساقط الثلج وتفتح الورود وولادة طفل كي تحدّثي أطفالك عن الله.
7 - اشكري الله على كلّ ما يحيط بنا من نِعَم بصوت عال فيتعلّم أطفالك الشكر مثلك.
(*) أخصائيّة في التربية الدينية. - أميمة عليق (2010)، تأثير القصص على تحوّل مفهوم الله عند الأطفال، دراسة مقارنة بين لبنان وإيران.
رسالة دكتوراه، جامعة تربيت مدرس. - أميمة عليق (2015)، ألف باء الحياة؛ دار الولاء، بيروت، لبنان.
- المباني النظريّة للوثيقة الوطنيّة للتربية والتعليم الصادرة في الجمهورية الإسلاميّة في إيران عن وزارة التربية والمجلس الأعلى للثورة الثقافية (2013).
- دادستان، پ. (2002)، "الدين والنموّ الذهنيّ"، مجلّة العلوم النفسيّة المعرفيّة، الدورة الأولى، العدد2، جامعة طهران، كلية علم النفس والعلوم التربوية، طهران.
- ياب، ايريس (2003)، مفاتيح لنقل مفهوم الله للأطفال. ترجمة: مسعود حاجي زاده، انتشارات صابرين، طهران.